بين البروفيسور وبائع الطماطم، بعض تجليات التعليم الناجح
حدثني البروفيسور السوداني مبارك محمد علي المجذوب – وزير التعليم العالي ورئيس جامعة الجزيرة
وعميد معهد الطب النووي والأحياء الجزيئية وأمين عام اتحاد مجالس البحث العلمي العربية – سابقاً
قال: بينما كنت أشتري من أحد الباعة بعض الطماطم، وصلتني مكالمة هاتفية وأثناء حديثي عبر الهاتف
تدخل بائع الطماطم لتصويب عبارة قلتها بالإنكليزية.
بعد انتهاء المكالمة، يقول البروفيسور، سألت البائع: هل لحنتُ في الإنكليزية؟ قال: نعم، قلت: وهل تتقن
الإنكليزية؟ قال: أنا أستاذ لغة انكليزية! قلت ولماذا تشتغل ببيع الطماطم؟ قال لأنني أجني من المال من
بيع الطماطم أكثر مما أجنيه من تدريس الإنكليزية.
قد لا يعير الكثير منا اهتماما لمثل هذه الوقائع لكنها تعتبر في الواقع مؤشرا على التحولات العميقة التي
تعتري مجال التعليم والتعلم في العالم اليوم. وبلادنا ليست استثناء من القاعدة فحالة التعليم تدعو للقلق في
الكثير من بلدان العالم ولكن بنسب متفاوتة.
في كل مرة بعد صدور نتائج مسابقات التعليم، ينهال علينا الكُتّاب بسيل من المقالات بعضها هجومي
وبعضها دفاعي وكل كاتب يصور الوضعية على حسب ما يرى من حالها. والواقع أن حال التعليم يشبه
قطع البزل Puzzle التي تعكس الصورة كاملة عند تجميعها بشكل صحيح. بمعنى آخر أن حالة التعليم
في بلادنا تكتمل صورتها فقط إذا قمنا بإعادة قراءة الآراء المختلفة بمقاربة شمولية صحيحة.
والذي لا شك فيه وقد أجمع عليه أصحاب الرأي والاختصاص في مجال التربية والتعليم أن الواقع الجديد
الذي أحدثه التغير السريع في أوضاع البشرية وما تشهده من اضطرابات يحتم علينا اليوم أن نعمل على
إحداث تغيير عميق في نظم التربية والتعليم بقدر ما تشهده المجتمعات من تحول عميق. لقد ظهرت
الحاجة إلى كفاءات ومهارات جديدة تحتاجها المجتمعات في الحاضر والمستقبل. واشتدت بعض الظواهر
كالتعصب والإرهاب والعنف والحروب والأوبئة وظهرت أنواع جديدة من الجرائم واشتد الضغط
والمنافسة على الموارد الطبيعية. وكل ذلك يدفع الدول إلى تجديد الرؤية للتربية والتعليم في عالم متغير.
وقد حدثت بالفعل تحولات عميقة في مجال التعليم والتكوين وفقدت الشهادات قيمتها مقارنة بالمهارات في
بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وفي بعض الشركات العالمية مثل Google وApple فألغت
شرط الشهادة في كثير من وظائفها لقناعتها بأن المهارة أهم من الشهادة. ويشهد العالم اليوم تطورا جديدا
حيث بدأت كبريات الشركات العالمية بتقديم برامج تعليمية لاكتساب مهارات ضرورية لسوق العمل يمنح
أصحابها شهادات في المجال الذي تم تكوينهم فيه. ويرى بعض خبراء التربية والتكوين أن ذلك ربما ينذر
بإننا على عتبة مرحلة جديدة قد تفضي إلى الاستغناء عن نظم التعليم التقليدية التي تعودنا عليها.
نشر البروفيسور جون هاتي John Hattie أحد أكبر الأخصائيين في قضايا التربية اليوم، بحثا بعنوان:
“ما لا ينجح في التعليم”، وهو ما يسميه “سياسات صرف الانتباه” The politics of distraction.
ولما سُأل جون هاتي عما سيفعله إذا أصبح وزيرا للتعليم، أكد أنه لن يسعى للقيام بأي عمليات إصلاحات
ضخمة في قطاع التعليم، بل سيسعى إلى تطبيق ما استفاده من نتائج أبحاثه عن الدرس الجيد، وأنه سيعتمد
في ذلك على تكوين مجموعات من أفضل المعلمين في كل منطقة بالتعاون مع أكثر المديرين نجاحا،
ليشرفوا على إطلاع بقية المعلمين على كيفية الارتقاء بعملهم داخل الصف، دون إضاعة الوقت والجهد
والمال في إجراء تعديلات غير مجدية.
لا يمكن وضع حلول فعالة للتعليم لا تناسب المرحلة الزمنية التي يعيشها المجتمع. نعم! من المهم أن
نستفيد من التجارب الناجحة في مجتمع معين وفي فترة معينة. لكن يجب ألا ننسى أنه من المستحيل
تحقيق نتائج جديدة بوسائل قديمة، وأن عملية الإصلاح تتطلب أن يضحي المواطن ببعض الامتيازات
والمكاسب الشخصية من أجل المصلحة العامة. لن تجدي محاولات إصلاح التعليم نفعا إلا إذا اضطلع
المجتمع بدوره كقوة دفع وحاضنة تتبنى جهود الإصلاح وتدعمها وتسهر على حسن سيرها.
بين البروفيسور وبائع الطماطم، بعض تجليات التعليم الناجح / محمد الأمين حمادي